كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسواء كان سبب نزول الآية ما جاء في تلك الروايات، أو كانت بصدد زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها فإن القاعدة التي تقررها الآية أعم وأشمل، وأعمق جدًا في نفوس المسلمين وحياتهم وتصورهم الأصيل.
فهذا المقوّم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقرارًا حقيقيًا؛ واستيقنته أنفسهم، وتكيفت به مشاعرهم. هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء؛ وليس لهم من أمرهم شيء. إنما هم وما ملكت أيديهم لله. يصرفهم كيف يشاء، ويختار لهم ما يريد. وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام. وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام؛ ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة؛ ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم.
وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة؛ وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح؛ وإن هم إلا أجراء، لهم أجرهم على العمل، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة!.
عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله. أسلموها بكل ما فيها؛ فلم يعد لهم منها شيء. وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله؛ واستقامت حركاتهم مع دورته العامة؛ وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها، لا تحاول أن تخرج عنها، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله.
وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هو الذي يصرف كل شيء، وكل أحد، وكل حادث، وكل حالة. واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة.
وشيئًا فشيئًا لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل؛ أو بالألم الذي يعالج بالصبر. إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه، معروف في ضميره، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة!.
ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمرًا هم يريدون قضاءه، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أربًا يستعجلون تحقيقه، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي، وهم راضون مستروحون، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق، وفي غير من ولا غرور، وفي غير حسرة ولا أسف. وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه؛ وأن ما يريده الله هو الذي يكون، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم.
إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم، وتصرف حركاتهم؛ وهم مطمئنون لليد التي تقودهم، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين، سائرون معها في بساطة ويسر ولين.
وهم مع هذا يعملون ما يقدرون عليه ويبذلون ما يملكون كله، ولا يضيعون وقتًا ولا جهدًا، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة. ثم لا يتكلفون ما لا يطيقون، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص، ومن ضعف وقوة؛ ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، ولا أن يقولوا غير ما يفعلون.
وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون.. هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها؛ وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال!.
واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك.
وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك، وخطوات الزمان، ولا تحتك بها أو تصطدم، فتتعوق أو تبطئ نتيجة الاحتكاك والاصطدام. وهو الذي بارك تلك الجهود، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان.
ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود، وفق قدر الله المصرف لهذا الوجود.. كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر؛ إنما تتم بإرادة الله المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات، والكواكب والأفلاك؛ ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص.
وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن.. حيث يقول الله تبارك وتعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} أو يقول: {ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء} أو يقول: {إن الهدى هدى الله} فذلك هو الهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع. هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود؛ وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود.
ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى الله بمعناه؛ وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود؛ ويطمئن الضمير إلى قدر الله الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه.
ومن هذا البيان ينجلي أن هذا النص القرآني: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}. أشمل وأوسع وأبعد مدى من أي حادث خاص يكون قد نزل فيه. وأنه يقرر كلية أساسية، أو الكلية الأساسية، في منهج الإسلام!.
ثم يجيء الحديث عن حادث زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، وما سبقه وما تلاه من أحكام وتوجيهات:
{وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا وكان أمر الله مفعولًا ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرًا مقدروًا الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله وكفى بالله حسيبًا ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليمًا}.
مضى في أول السورة إبطال تقليد التبني؛ ورد الأدعياء إلى آبائهم، وإقامة العلاقات العائلية على أساسها الطبيعي:
{وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا} ولكن نظام التبني كانت له آثار واقعية في حياة الجماعة العربية؛ ولم يكن إبطال هذه الآثار الواقعية في حياة المجتمع ليمضي بالسهولة التي يمضي بها إبطال تقليد التبني ذاته. فالتقاليد الاجتماعية أعمق أثرًا في النفوس. ولابد من سوابق عملية مضادة. ولابد أن تستقبل هذه السوابق أول أمرها بالاستنكار؛ وأن تكون شديدة الوقع على الكثيرين.
وقد مضى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج زيد بن حارثة الذي كان متبناه، وكان يدعى زيد ابن محمد ثم دعي إلى أبيه من زينب بنت جحش، ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحطم بهذا الزواج فوارق الطبقات الموروثة، ويحقق معنى قوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} ويقرر هذه القيمة الإسلامية الجديدة بفعل عملي واقعي.
ثم شاء الله أن يحمل نبيه بعد ذلك فيما يحمل من أعباء الرسالة مؤنة إزالة آثار نظام التبني؛ فيتزوج من مطلقة متبناه زيد بن حارثة. ويواجه المجتمع بهذا العمل، الذي لا يستطيع أحد أن يواجه المجتمع به، على الرغم من إبطال عادة التبني في ذاتها!.
وألهم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زيدًا سيطلق زينب؛ وأنه هو سيتزوجها، للحكمة التي قضى الله بها. وكانت العلاقات بين زيد وزينب قد اضطربت، وعادت توحي بأن حياتهما لن تستقيم طويلًا.
وجاء زيد مرة بعد مرة يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطراب حياته مع زينب؛ وعدم استطاعته المضي معها. والرسول صلوات الله وسلامه عليه على شجاعته في مواجهة قومه في أمر العقيدة دون لجلجة ولا خشية يحس ثقل التبعة فيما ألهمه الله من أمر زينب؛ ويتردد في مواجهة القوم بتحطيم ذلك التقليد العميق؛ فيقول لزيد الذي أنعم الله عليه بالإسلام وبالقرب من رسوله وبحب الرسول له، ذلك الحب الذي يتقدم به في قلبه على كل أحد بلا استثناء. والذي أنعم عليه الرسول بالعتق والتربية والحب.. يقول له: {أمسك عليك زوجك واتق الله}. ويؤخر بهذا مواجهة الأمر العظيم الذي يتردد في الخروج به على الناس. كما قال الله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه!}. وهذا الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه، وهو يعلم أن الله مبديه، هو ما ألهمه الله أن سيفعله.
ولم يكن أمرًا صريحًا من الله. وإلا ما تردد فيه ولا أخره ولا حاول تأجيله. ولجهر به في حينه مهما كانت العواقب التي يتوقعها من إعلانه. ولكنه صلى الله عليه وسلم كان أمام إلهام يجده في نفسه، ويتوجس في الوقت ذاته من مواجهته، ومواجهة الناس به. حتى أذن الله بكونه. فطلق زيد زوجه في النهاية. وهو لا يفكر لا هو ولا زينب، فيما سيكون بعد. لأن العرف السائد كان يعد زينب مطلقة ابن لمحمد لا تحل له. حتى بعد إبطال عادة التبني في ذاتها. ولم يكن قد نزل بعد إحلال مطلقات الأدعياء. إنما كان حادث زواج النبي بها فيما بعد هو الذي قرر هذه القاعدة. بعدما قوبل هذا القرار بالدهشة والمفاجأة والاستنكار.
وفي هذا ما يهدم كل الروايات التي رويت عن هذا الحادث؛ والتي تشبث بها أعداء الإسلام قديمًا وحديثًا، وصاغوا حولها الأساطير والمفتريات!.
إنما كان الأمر كما قال الله تعالى: {فلما قضى زيد منها وطرًا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرًا}. وكانت هذه إحدى ضرائب الرسالة الباهظة حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حمل؛ وواجه بها المجتمع الكاره لها كل الكراهية. حتى ليتردد في مواجهته بها وهو الذي لم يتردد في مواجهته بعقيدة التوحيد، وذم الآلهة والشركاء؛ وتخطئة الآباء والأجداد!.
{وكان أمر الله مفعولًا}. لا مرد له، ولا مفر منه. واقعًا محققًا لا سبيل إلى تخلفه ولا إلى الحيدة عنه.
وكان زواجه صلى الله عليه وسلم من زينب رضي الله عنها بعد انقضاء عدتها. أرسل إليها زيدًا زوجها السابق. وأحب خلق الله إليه. أرسله إليها ليخطبها عليه.
عن أنس رضي الله عنه قال: «لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة» اذهب فاذكرها عليّ «فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، وأقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها! فوليتها ظهري، ونكصت على عقبي، وقلت: يا زينب. أبشري. أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أؤامر ربي عز وجل. فقامت إلى مسجدها. ونزل القرآن. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن..».
وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات.
ولم تمر المسألة سهلة، فلقد فوجئ بها المجتمع الإسلامي كله؛ كما انطلقت ألسنة المنافقين تقول: تزوج حليلة ابنه!.
ولما كانت المسألة مسألة تقرير مبدأ جديد فقد مضى القرآن يؤكدها؛ ويزيل عنصر الغرابة فيها، ويردها إلى أصولها البسيطة المنطقية التاريخية:
{ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله}.
فقد فرض له أن يتزوج زينب، وأن يبطل عادة العرب في تحريم أزواج الأدعياء. وإذن فلا حرج في هذا الأمر، وليس النبي صلى الله عليه وسلم فيه بدعًا من الرسل.
{سنة الله في الذين خلوا من قبل}.
فهو أمر يمضي وفق سنة الله التي لا تتبدل. والتي تتعلق بحقائق الأشياء، لا بما يحوطها من تصورات وتقاليد مصطنعة لا تقوم على أساس.
{وكان أمر الله قدرًا مقدورا}.
فهو نافذ مفعول، لا يقف في وجهه شيء ولا أحد. وهو مقدر بحكمة وخبرة ووزن، منظور فيه إلى الغاية التي يريدها الله منه. ويعلم ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها. وقد أمر الله رسوله أن يبطل تلك العادة ويمحو آثارها عمليًا، ويقرر بنفسه السابقة الواقعية. ولم يكن بد من نفاذ أمر الله.
وسنة الله هذه قد مضت في الذين خلوا من قبل من الرسل:
{الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله}.
فلا يحسبون للخلق حسابًا فيما يكلفهم الله به من أمور الرسالة، ولا يخشون أحدًا إلا الله الذي أرسلهم للتبليغ والعمل والتنفيذ.
{وكفى بالله حسيبًا}.
فهو وحده الذي يحاسبهم، وليس للناس عليهم من حساب.
{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} فزينب ليست حليلة ابنه، وزيد ليس ابن محمد. إنما هو ابن حارثة. ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة.
والعلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين جميع المسلمين ومنهم زيد بن حارثة هي علاقة النبي بقومه، وليس هو أبًا لأحد منهم:
{ولكن رسول الله وخاتم النبيين}.
ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية؛ وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير.
{وكان الله بكل شيء عليمًا}.
فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، وما يصلحها؛ وهو الذي فرض على النبي ما فرض، واختار له ما اختار. ليحل للناس أزواج أدعيائهم، إذا ما قضوا منهن وطرًا، وانتهت حاجتهم منهن، وأطلقوا سراحهن.. قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء. ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين؛ ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين.